فصل: الآية رقم ‏(‏172‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏171‏)‏

‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون‏}‏

شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية الإيجاز‏.‏ قال سيبويه‏:‏ لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به‏.‏ والمعنى‏:‏ ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع‏.‏ وقال قطرب‏:‏ المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي‏.‏ قال الطبري‏:‏ المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه‏.‏ ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به‏.‏ والنعيق‏:‏ زجر الغنم والصياح بها، يقال‏:‏ نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا، أي صاح بها وزجرها‏.‏ قال الأخطل‏:‏

انعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا

قال القتبي‏:‏ لم يكن جرير راعي ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن، وجرير منهم، فهو في جهلهم‏.‏ والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون‏{‏أجهل من راعي ضأن‏{‏‏.‏ قال القتبي‏:‏ ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم‏.‏ والنداء للبعيد، والدعاء للقريب، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد‏.‏ وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر‏.‏ ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمي‏.‏ وقد تقدم في أول السورة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏172‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون‏}‏

هذا تأكيد للأمر الأول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا‏.‏ والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الأكل المعتاد‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال ‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم‏}‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ وقال‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم‏{‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ‏[‏ومشربه حرام‏]‏ وملبسه حرام ‏[‏وغذي بالحرام‏]‏ فأنى يستجاب لذلك‏)‏‏.‏ ‏{‏واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون‏{‏ تقدم معنى الشكر فلا معنى للإعادة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏173‏)‏

‏{‏إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما حرم عليكم‏{‏ ‏{‏إنما‏{‏ كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم‏{‏ فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة ‏{‏إنما‏{‏ الحاصرة، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه‏}‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قاله ابن العربي‏.‏ وسيأتي الكلام في تلك في ‏{‏الأنعام‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏الميتة‏{‏ نصب بـ ‏{‏حرّم‏{‏، و‏{‏ما‏{‏ كافة‏.‏ ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع ‏{‏الميتة والدم ولحم الخنزير‏{‏ على خبر ‏{‏إن‏{‏ وهي قراءة ابن أبي عبلة‏.‏ وفي ‏{‏حرم‏{‏ ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى‏{‏إنما صنعوا كيد ساحر‏}‏طه‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏حرم‏{‏ بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا ‏{‏الميتة‏{‏ بالتشديد‏.‏ الطبري‏:‏ وقال جماعة من اللغويين‏:‏ التشديد والتخفيف في ميت وميت لغتان‏.‏ وقال أبو حاتم وغيره‏:‏ ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه ‏{‏ميت‏{‏ بالتخفيف، دليله قوله تعالى‏{‏إنك ميت وإنهم ميتون‏}‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير ‏{‏وما هو بميت‏{‏ والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر‏:‏

إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد

فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، والأول أشهر‏.‏

الميتة‏:‏ ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي ‏{‏الأنعام‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال‏)‏‏.‏ ‏"‏أخرجه الدار قطني‏"‏، وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده‏.‏ ‏"‏خرجه البخاري ومسلم‏"‏ مع قوله تعالى‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏المائدة‏:‏ 96‏]‏، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء اللّه تعالى‏.‏ وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك‏.‏ وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال‏:‏ أنتم تقولون خنزيرا قال ابن القاسم‏:‏ وأنا أتقيه ولا أراه حراما‏.‏

وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب اللّه تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي‏.‏ وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال‏:‏ غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه‏.‏ وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبدالحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما‏.‏ ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه، لأنه من صيد البر، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال‏.‏ وقال أشهب‏:‏ إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل‏.‏ وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في ‏{‏الأعراف‏{‏ عند ذكره، إن شاء اللّه تعالى‏.‏

واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، واختلف عن مالك في ذلك أيضا، فقال مرة‏:‏ يجوز الانتفاع بها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال‏:‏ ‏(‏هلا أخذتم إهابها‏)‏ الحديث‏.‏ وقال مرة‏:‏ جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع‏.‏ ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ولم يخص وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال‏:‏ هذا الخطاب مجمل، لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى‏{‏حرمت عليكم الميتة‏{‏، وأيضا فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بشيء‏)‏‏.‏ وفي حديث عبدالله بن عكيم‏؟‏‏؟‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏ وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في ‏{‏النحل‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها‏.‏ ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها‏.‏ وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق‏.‏ وقد روى جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال‏:‏ ‏(‏إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه‏)‏‏.‏ خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أو لا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه‏.‏ وروي عنه أنه يطهر، لقوله عليه السلام ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏‏.‏ ووجه قوله‏:‏ لا يطهر، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم‏.‏ وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء، لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة ‏{‏الفرقان‏{‏‏.‏ والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية، واللّه تعالى أعلم‏.‏

وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر، لما روي عن أم سلمة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل‏)‏‏.‏ ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس‏.‏ ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة، لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت‏.‏ وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة ‏{‏النحل‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان‏:‏ حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر‏.‏ وإن ماتت فيه فله حالتان‏:‏ حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه‏.‏ وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه‏)‏‏.‏ واختلف العلماء فيه إذا غسل، فقيل‏:‏ لا يطهر بالغسل، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يطهر بالغسل، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه‏.‏

فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم‏.‏ ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة‏.‏ وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وأن اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه‏)‏ وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر‏.‏

واختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره فمات فروى ابن وهب عن مالك أنه قال‏:‏ لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه‏.‏ وروى ابن القاسم عنه أنه قال‏:‏ يغسل اللحم ويراق المرق‏.‏ وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال‏:‏ يغسل اللحم ويؤكل‏.‏ ولا مخالف له في المرق من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد‏.‏

فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي‏:‏ ذلك نجس لعموم قوله تعالى ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال‏:‏ ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا‏.‏ وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل‏.‏ وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء‏.‏

قال ابن خويز منداد فإن قيل‏:‏ فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بأنفحة ميته أو ذكي‏.‏ قيل له‏:‏ قدر ما يقع من الأنفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع‏.‏ هذا جواب على إحدى الروايتين‏.‏ وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم، فمن أين لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفخة ذبائحهم‏.‏

وقال أبو عمر‏:‏ ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من أنفحة الميتة‏.‏ وفي سنن ابن ماجة ‏{‏الجبن والسمن‏{‏ حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال‏:‏ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏الحلال ما أحل اللّه في كتابه والحرام ما حرم اللّه في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏(‏

قوله تعالى‏{‏والدم‏}‏ اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى‏.‏ والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه‏.‏ وإنما قلنا ذلك لأن اللّه تعالى قال‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وقال في موضع آخر ‏{‏قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا‏}‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ فحرم المسفوح من الدم‏.‏ وقد روت عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ ‏(‏كنا نطبخ البرمة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره‏)‏ لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع‏.‏ وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ذكر اللّه سبحانه وتعالى الدم ههنا مطلقا، وقيده في الأنعام بقوله ‏{‏مسفوحا‏}‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ وحمل العلماء ههنا المطلق على المقيد إجماعا‏.‏ فالدم هنا يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه‏.‏ وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرم‏.‏ وهو اختيار ابن العربي، قال‏:‏ لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته‏.‏

قلت‏:‏ وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول‏:‏ الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس أبيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود‏.‏ وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولحم الخنزير‏{‏ خص اللّه تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها‏.‏

أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير‏.‏ وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم‏.‏ فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم‏.‏ وقد حرم اللّه تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لأنه دخل تحت اسم اللحم‏.‏ وحرم اللّه تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله‏{‏حرمنا عليهم شحومهما‏}‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث واللّه تعالى أعلم‏.‏ ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم‏.‏

لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به‏.‏ وقد روي أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال‏:‏ ‏(‏لا بأس بذلك‏)‏ ذكره ابن خويز منداد، قال‏:‏ ولأن الخرازة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده‏.‏ وما أجازه الرسول صلى اللّه عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه‏.‏

لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف‏.‏ وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال‏:‏ أنتم تقولون خنزيرا وقد تقدم، وسيأتي بيانه في ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية‏.‏ وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر‏.‏ والخزر‏:‏ ضيق العين وصغرها‏.‏ رجل أخزر بين الخزر‏.‏ ويقال‏:‏ هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها‏.‏ وجمع الخنزير خنازير‏.‏ والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أهل به لغير الله‏{‏ أي ذكر عليه غير اسم اللّه تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل‏.‏ فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه‏.‏ ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى في سورة ‏{‏المائدة‏{‏‏.‏ والإهلال‏:‏ رفع الصوت، يقال‏:‏ أهل بكذا، أي رفع صوته‏.‏ قال ابن أحمر يصف فلاة‏:‏

يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر

وقال النابغة‏:‏

أو درة صدفية غواصها بهيج متى يرها يهل ويسجد

ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في سورة ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال‏:‏ إنها مما أهل لغير اللّه به، فتركها الناس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن‏:‏ لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال‏:‏ أخبرنا جرير عن قابوس قال‏:‏ أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي اللّه عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدوم عليها‏.‏ قالت‏:‏ ‏(‏كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة‏.‏ قالت امرأة عند ذلك من الناس‏:‏ يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا‏؟‏ قالت‏:‏ أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم‏)‏

قوله تعالى‏{‏فمن اضطر‏}‏ قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏فمن اطّر‏{‏ بإدغام الضاد في الطاء‏.‏ وأبو السمال ‏{‏فمن اضطر‏{‏ بكسر الطاء‏.‏ وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء‏.‏

الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة‏.‏ والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية اللّه تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه‏.‏

وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى‏.‏ وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجعنا إليه فقال‏:‏ ‏(‏إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد اللّه أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا‏)‏ قالوا لا، فقال‏:‏ ‏(‏إن هذه كذلك‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل‏)‏‏.‏‏"‏ خرجه ابن ماجة‏"‏ رحمه اللّه، وقال‏:‏ هذا الأصل عندي‏.‏ وذكره ابن المنذر قال‏:‏ قلنا يا رسول اللّه، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم اللّه الأموال‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية‏.‏ وكان للممنوع منه ما له من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض‏.‏ فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية‏.‏ والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء‏.‏ إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا‏.‏ ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة‏.‏

خرج ابن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة وحدثنا محمد بن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال‏:‏ سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال‏:‏ أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل‏:‏ ‏(‏ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا‏)‏ فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق‏.‏

قلت‏:‏ هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده‏.‏ وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا، وليس له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه اللّه، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة‏.‏ وقد ‏"‏روى أبو داود عن الحسن ‏"‏بن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل‏)‏‏.‏‏"‏ وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم‏"‏ عن عبيداللّه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم‏.‏ وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال‏:‏ ‏(‏من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه‏)‏‏.‏ قال فيه‏:‏ حديث حسن‏.‏ وفي حديث عمر رضي اللّه عنه‏:‏ ‏(‏إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا‏)‏‏.‏ قال أبو عبيد قال أبو عمر‏:‏ وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبان، يقال‏:‏ قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه‏:‏ قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك‏.‏ فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع ‏(‏ولا يتخذ خبنة‏)‏‏.‏ يقال منه‏:‏ خبنت أخبن خبنا‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته‏.‏

قلت‏:‏ لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام، أو كما هو الآن في بعض البلدان، فذلك جائز‏.‏ ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم واللّه أعلم‏.‏

وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها‏.‏ قال معناه مالك في موطئه، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء‏.‏ والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا‏.‏ ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده‏.‏ وحديث العنبر نص في ذلك، فإن أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم‏:‏ ميتة‏.‏ ثم قال‏:‏ لا، بل نحن رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي سبيل اللّه، وقد اضطررتم فكلوا‏.‏ قال‏:‏ فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، الحديث‏.‏ فأكلوا وشبعوا - رضوان اللّه عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرهم صلى اللّه عليه وسلم أنه حلال وقال‏:‏ ‏(‏هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا‏)‏ فأرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه فأكله‏.‏ وقالت طائفة‏.‏ يأكل بقدر سد الرمق‏.‏ وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا‏:‏ المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود‏:‏ فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها‏.‏

فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال‏:‏ ولا يزيده الخمر إلا عطشا‏.‏ وهو قول الشافعي، فإن اللّه تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة‏.‏ وقال الأبهري‏:‏ إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن اللّه تعالى قال في الخنزير ‏{‏فإنه رجس‏{‏ ثم أباحه للضرورة‏.‏ وقال تعالى في الخمر إنها ‏{‏رجس‏{‏ فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة‏.‏

روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال‏:‏ يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ‏.‏ نص عليه أصحاب الشافعي‏.‏

فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل‏.‏ لا، مخافة أن يدعي ذلك‏.‏ وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة‏.‏ ابن العربي‏{‏أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين اللّه تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند اللّه تعالى باطنا‏.‏ ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولخم ابن آدم أكل الميتة، لأنها حلال في حال‏.‏ والخنزير وابن آدم لا يحل بحال‏.‏ والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال‏.‏ وهذا هو الضابط لهذه الأحكام‏.‏ ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود‏.‏ احتج أحمد بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كسر عظم الميت ككسره حيا‏)‏‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يأكل لحم ابن آدم‏.‏ ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير‏.‏ فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه‏.‏ وشنع داود على المزني بأن قال‏:‏ قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه ابن شريح بأن قال‏:‏ فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، واللّه أعلم‏.‏

سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال‏:‏ إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إليّ من أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏ وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة‏.‏

‏"‏روى أبو داود‏"‏قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل‏:‏ إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته‏:‏ انحرها، فأبىّ فنفقت‏.‏ فقالت‏:‏ اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال‏:‏ حتى أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال‏:‏ ‏(‏هل عندك غنى يغنيك‏)‏ قال لا، قال‏:‏ ‏(‏فكلوها‏)‏ قال‏:‏ فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال‏:‏ هلا كنت نحرتها فقال‏:‏ استحييت منك‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ في هذا الحديث دليلان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه‏.‏ والثاني‏:‏ يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وحدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ما يحل لنا الميتة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما طعامكم‏)‏ قلنا‏:‏ نغتبق ونصطبح‏.‏ قال أبو نعيم‏:‏ فسره لي عقبة‏:‏ قدح غدوة وقدح عشية قال‏:‏ ‏(‏ذاك وأبي الجوع‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فأحل لهم الميتة على هذه الحال‏.‏ قال أبو داود‏:‏ الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت‏.‏ وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر‏:‏ لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها‏.‏ وروى نحوه عن الحسن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا يتضلع منها بشيء‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لا يزداد على ثلاث لقم‏.‏ والصحيح خلاف هذا، كما تقدم‏.‏

وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب‏:‏ يجوز التداوي بها والصلاة‏.‏ وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات‏.‏ وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله‏.‏ وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون‏:‏ لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة‏.‏ ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل‏.‏ وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري‏.‏ وقال بعض البغداديين من الشافعية‏:‏ يجوز شربها للعطش دون التداوي، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز شربها للأمرين جميعا‏.‏ ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة، لحديث العرنيين‏.‏ ومنع بعضهم التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن اللّه لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم‏)‏، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما أصنعها للدواء، فقال‏:‏ ‏(‏إنه ليس بدواء ولكنه داء‏)‏‏.‏‏"‏ رواه مسلم في الصحيح‏"‏‏.‏ وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه، واللّه أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏غير باغ‏}‏ ‏{‏غير‏{‏ نصب على الحال، وقيل‏:‏ على الاستثناء‏.‏ وإذا رأيت ‏{‏غير‏{‏ يصلح في موضعه ‏{‏في‏{‏ فهي حال، وإذا صلح موضعها ‏{‏إلا‏{‏ فهي استثناء، فقس عليه‏.‏ و‏{‏باغ‏{‏ أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها‏.‏ والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة ‏{‏غير باغ‏{‏ في أكله فوق حاجته، ‏{‏ولا عاد‏{‏ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها‏.‏ وقال السدي‏{‏غير باغ‏{‏ في أكلها شهوة وتلذذا، ‏{‏ولا عاد‏{‏ باستيفاء الأكل إلى حد الشبع‏.‏ وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما‏:‏ المعنى ‏{‏غير باغ‏{‏ على المسلمين ‏{‏ولا عاد‏{‏ عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله‏.‏ وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، يقال‏:‏ بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال اللّه تعالى‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء‏}‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد‏.‏ والعرب تقول‏:‏ خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا يمنعك من بغا ء الخير تعقاد الرتائم

إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم

قوله تعالى‏{‏ولا عاد‏{‏ أصل ‏{‏عاد‏{‏ عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث‏.‏ والأصل شائك وهائر ولائث، من لثت العمامة‏.‏ فأباح اللّه في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم‏.‏

واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته، لأن اللّه سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل‏.‏ وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال اللّه تعالى‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏النساء‏:‏ 29‏]‏ وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان، وقد قال مسروق‏:‏ من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو اللّه عنه‏.‏ قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا‏:‏ وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء‏.‏ قال‏:‏ وهو الصحيح عندنا‏.‏

قلت‏:‏ واختلفت الروايات عن مالك في ذلك، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى‏:‏ أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر‏.‏ فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا‏:‏ إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لأن التيمم في الحضر والسفر سواء‏.‏ وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة‏.‏ أيجوز أن يقال له‏:‏ ارتكبت معصية فارتكب أخرى أيجوز أن يقال لشارب الخمر‏:‏ ازن، وللزاني‏:‏ اكفر أو يقال لهما‏:‏ ضيعا الصلاة‏؟‏ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه‏.‏ وقال الباجي‏{‏وروى زياد بن عبدالرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان‏.‏ فسوى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها، فكذلك ما ذكرناه‏.‏ وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته‏.‏ وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد‏{‏ فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا‏.‏ والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الإباحة، واللّه أعلم ‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الأصوليين، ومنظوما الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد ولا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والأصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله غفور رحيم‏{‏ أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص‏.‏

 الآية رقم ‏(‏174‏)‏

‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب‏{‏ يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة رسالته‏.‏ ومعنى ‏{‏أنزل‏{‏‏:‏ أظهر، كما قال تعالى‏{‏ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله‏}‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏ أي سأظهر‏.‏ وقيل‏:‏ هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله‏.‏ ‏{‏ويشترون به‏{‏ أي بالمكتوم ‏{‏ثمنا قليلا‏{‏ يعني أخذ الرشاء‏.‏ وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته‏.‏ وقيل‏:‏ لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم هذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏في بطونهم‏{‏ ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه‏.‏ وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له‏.‏ ومعنى ‏{‏إلا النار‏{‏ أي إنه حرام يعذبهم اللّه عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة‏.‏ فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا‏}‏النساء‏:‏ 10‏]‏ أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم‏:‏

لدوا للموت وابنوا للخراب

قال‏:‏

فللموت ما تلد الوالدة

آخر‏:‏

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وهو في القرآن والشعر كثير‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يكلمهم الله‏{‏ عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال‏:‏ فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه‏.‏ وقال الطبري‏:‏ المعنى ‏{‏ولا يكلمهم‏{‏ بما يحبونه‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية‏.‏ ‏{‏ولا يزكيهم‏{‏ أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء‏.‏ ‏{‏أليم‏{‏ بمعنى مؤلم، وقد تقدم‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر‏)‏‏.‏ وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم‏.‏ ومعنى ‏{‏لا ينظر إليهم‏{‏ لا يرحمهم ولا يعطف عليهم‏.‏ وسيأتي في ‏{‏آل عمران‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏175‏)‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة‏{‏ تقدم القول فيه‏.‏ ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي طرحوه دخلا في تجوز الشراء‏.‏

قوله تعالى‏{‏فما أصبرهم على النار‏{‏ مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن ‏{‏ما‏{‏ معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال‏:‏ اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها‏.‏ وفي التنزيل‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏عبس‏:‏ 17‏]‏ و‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏مريم‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وبهذا المعنى صدر أبو علي‏.‏ قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع‏:‏ ما لهم واللّه عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار وهي لغة يمنية معروفة‏.‏ قال الفراء أخبرني الكسائي قال‏:‏ أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه‏:‏ ما أصبرك على اللّه‏؟‏ أي ما أجرأك عليه‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها‏.‏ وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم‏:‏ ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب‏:‏ أي ما أدومهم على عمل أهل النار‏.‏ وقيل‏{‏ما‏{‏ استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه‏:‏ أي أكثر شيء صبرهم على عمل أهل النار‏؟‏ وقيل‏:‏ هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏176‏)‏‏{‏ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏{‏ في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال‏:‏ ذلك الحكم بالنار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تقديره الأمر ذلك، أو ذلك الأمر، أو ذلك العذاب لهم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وخبر ‏{‏ذلك‏{‏ مضمر، معناه ذلك معلوم لهم‏.‏ وقيل‏:‏ محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم‏.‏ ‏{‏بأن الله نزل الكتاب‏{‏ يعني القرآن في هذا الموضع ‏{‏بالحق‏{‏ أي بالصدق‏.‏ وقيل بالحجة‏.‏ ‏{‏وإن الذين اختلفوا في الكتاب‏{‏ يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته‏.‏ وقيل‏:‏ خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها‏.‏ وقيل‏:‏ خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم واختلفوا فيها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم‏:‏ هو سحر، وبعضهم يقول‏:‏ أساطير الأولين، وبعضهم‏:‏ مفترى، إلى غير ذلك وقد تقدم القول في معنى الشقاق، والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏177‏)‏

‏{‏ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليس البر‏{‏ اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن رجلا سأل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ قال‏:‏ وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل اللّه هذه الآية، وقال الربيع وقتادة أيضا‏:‏ الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم‏:‏ ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن باللّه‏.‏

قرأ حمزة وحفص ‏{‏البر‏{‏ بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد ‏{‏ليس‏{‏‏{‏البر‏{‏ نصبه، وجعل ‏{‏أن تولوا‏{‏ الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏البر‏{‏ بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره ‏{‏أن تولوا‏{‏، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله‏{‏ما كان حجتهم إلا أن قالوا‏}‏الجاثية‏:‏ 25‏]‏، ‏{‏ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا‏}‏الروم‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏فكان عاقبتهما أنهما في النار‏}‏الحشر‏:‏ 17‏]‏ وما كان مثله‏.‏ ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله‏{‏وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها‏}‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له‏.‏ وكذلك هو في مصحف أبي بالباء ‏{‏ليس البر بأن تولوا‏{‏ وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولكن البر من آمن بالله‏{‏ البر ههنا اسم جامع للخير، والتقدير‏:‏ ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، ‏{‏وأشربوا في قلوبهم العجل‏}‏البقرة‏:‏ 93‏]‏ قاله الفراء وقطرب والزجاج‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة‏:‏

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

أي كخلالة أبي مرحب، فحذف‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى‏{‏هم درجات عند الله‏}‏آل عمران‏:‏ 163‏]‏ أي ذوو درجات‏.‏ وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل اللّه هذه الآية فقال‏:‏ ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن باللّه، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏البر‏{‏ بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال‏:‏ رجل عدل، وصوم وفطر‏.‏ وفي التنزيل‏{‏إن أصبح ماؤكم غورا‏}‏الملك‏:‏ 30‏]‏ أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة‏.‏ وقال المبرد‏:‏ لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ‏{‏ولكن البر‏{‏ بفتح الباء‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتى المال على حبه‏{‏ استدل به من قال‏:‏ إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في المال حقا سوى الزكاة‏)‏ ثم تلا هذه الآية ‏{‏ليس البر أن تولوا وجوهكم‏{‏ إلى آخر الآية‏.‏‏"‏ وأخرجه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه‏"‏ وقالهذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف‏.‏ وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح‏.‏

قلت‏:‏ والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى‏{‏وأقام الصلاة وآتى الزكاة‏}‏ فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله‏{‏وآتى المال على حبه‏{‏ ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، واللّه أعلم‏.‏ واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها‏.‏ قال مالك رحمه اللّه‏:‏ يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم‏.‏ وهذا إجماع أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله‏.‏

قوله تعالى‏{‏على حبه‏{‏ الضمير في ‏{‏حبه‏{‏ اختلف في عوده، فقيل‏:‏ يعود على المعطي للمال، وحذف المفعول وهو المال‏.‏ ويجوز نصب ‏{‏ذوي القربى‏{‏ بالحب، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى 0 وقيل‏:‏ يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويجيء قوله ‏{‏على حبه‏{‏ اعتراضا بليغا أثناء القول‏.‏

قلت‏:‏ ونظيره قوله الحق‏{‏ويطعمون الطعام على حبه مسكينا‏}‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام‏.‏ ومن الاعتراض قوله الحق‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك‏}‏النساء‏:‏ 124‏]‏ وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله ‏{‏على حبه‏{‏ وقوله‏{‏وهو مؤمن‏}‏النساء‏:‏ 124‏]‏، ومنه قول زهير‏:‏

من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا

وقال امرؤ القيس‏:‏

على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان

فقوله‏{‏على علاته‏{‏ و‏{‏قبل سؤاله‏{‏ تتميم حسن، ومنه قول عنترة‏:‏

أثني علي بما علمت فإنني سهل مخالفتي إذا لم أظلم

فقوله‏{‏إذا لم أظلم‏{‏ تتميم حسن‏.‏ وقال طرفة‏:‏

فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي

وقال الربيع بن ضبع الفزاري‏:‏

فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فان

فقوله‏{‏غير مفسدها‏{‏، و‏{‏إلا أحاديثه‏{‏ تتميم واحتراس‏.‏ وقال أبو هفان‏:‏

فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب

فقوله‏{‏غير ظالم‏{‏ و‏{‏غير عائب‏{‏ تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الإيتاء، لأن الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم‏}‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏ أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على اسم اللّه تعالى في قوله ‏{‏من آمن باللّه‏{‏‏.‏ والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء‏.‏

واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء‏.‏ وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا‏.‏

قوله تعالى‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا‏{‏ أي فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس‏.‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضراء‏{‏ البأساء‏:‏ الشدة والفقر‏.‏ والضراء‏:‏ المرض والزمانة، قاله ابن مسعود‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه، ما لحم خير من لحمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لحم لم يذنب‏)‏ قيل‏:‏ فما دم خير من دمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏دم لم يذنب‏)‏‏.‏ والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت‏.‏ ‏{‏وحين البأس‏{‏ أي وقت الحرب‏.‏

قوله تعالى‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين‏{‏ فقيل‏:‏ يكون ‏{‏الموفون‏{‏ عطفا على ‏{‏من‏{‏ لأن من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال‏:‏ ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش‏.‏ ‏{‏والصابرين‏{‏ نصب على المدح، أو بإضمار فعل‏.‏ والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه‏.‏ فأما المدح فقوله‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏النساء‏:‏ 162‏]‏‏.‏ وأنشد الكسائي‏:‏

وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد أبو عبيدة‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

وقال آخر‏:‏

نحن بني ضبة أصحاب الجمل

فنصب على المدح‏.‏ وأما الذم فقوله تعالى‏{‏ملعونين أينما ثقفوا‏}‏الأحزاب‏:‏ 61‏]‏ الآية‏.‏ وقال عروة بن الورد‏:‏

سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور

وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب كما بينا‏.‏ وقال بعض من تعسف في كلامه‏:‏ إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام، قال‏:‏ والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال‏:‏ أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها‏.‏ وهكذا قال في سورة النساء ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏النساء‏:‏ 162‏]‏، وفي سورة المائدة ‏{‏والصابئون‏}‏المائدة‏:‏ 69‏]‏‏.‏ والجواب ما ذكرناه‏.‏ وقيل‏{‏الموفون‏{‏ رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون‏.‏ وقال الكسائي‏{‏والصابرين‏{‏ عطف على ‏{‏ذوي القربى‏{‏ كأنه قال‏:‏ وآتى الصابرين‏.‏ قال النحاس‏{‏وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت ‏{‏والصابرين‏{‏ ونسقته على ‏{‏ذوي القربى‏{‏ دخل في صلة ‏{‏من‏{‏ وإذا رفعت ‏{‏والموفون‏{‏ على أنه نسق على ‏{‏من‏{‏ فقد نسقت على ‏{‏من‏{‏ من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف‏{‏‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏والموفين، والصابرين‏{‏‏.‏ وقال النحاس‏{‏يكونان منسوقين على ‏{‏ذوي القربى‏{‏ أو على المدح‏.‏ قال الفراء‏:‏ وفي قراءة عبدالله في النساء ‏{‏والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة‏}‏النساء‏:‏ 162‏]‏‏.‏ وقرأ يعقوب والأعمش ‏{‏والموفون والصابرون‏{‏ بالرفع فيهما‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏بعهودهم‏{‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏والموفون‏{‏ عطف على الضمير الذي في ‏{‏آمن‏{‏‏.‏ وأنكره أبو علي وقال‏:‏ ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن باللّه هو والموفون، أي آمنا جميعا‏.‏ كما تقول‏:‏ الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله ‏{‏من آمن‏{‏ تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة‏:‏ الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في ‏{‏الكتاب الأسنى‏{‏ - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب ‏{‏التذكرة‏{‏ - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به، وقيل‏:‏ الضيف - والسؤال وفك الرقاب‏.‏ وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد‏.‏ وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب‏.‏ وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها بما فيها في موضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون‏{‏ وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء‏.‏ والصدق‏:‏ خلاف الكذب ويقال‏:‏ صدقوهم القتال‏.‏ والصديق‏:‏ الملازم للصدق، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏178‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏

‏"‏روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس‏"‏ال‏{‏كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال اللّه لهذه الأمة‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء‏{‏ فالعفو أن يقبل الدية في العمد ‏{‏فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏{‏ يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏{‏ مما كتب على من كان قبلكم ‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏{‏ قتل بعد قبول الدية‏{‏‏.‏ هذا لفظ البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول‏:‏ وقال الشعبي في قوله تعالى‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏{‏ قال‏:‏ أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقبل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة‏.‏

قوله تعالى‏{‏كتب عليكم القصاص‏{‏ ‏{‏كتب‏{‏ معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏كتب‏{‏ هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء‏.‏ والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار‏.‏ وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه ‏{‏فارتدا على آثارهما قصصا‏}‏الكهف‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ القص القطع، يقال‏:‏ قصصت ما بينهما‏.‏ ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال‏:‏ أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه‏.‏

صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية‏)‏‏.‏ قال الشعبي وقتادة وغيرهما‏:‏ إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا‏:‏ لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا‏:‏ لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا‏:‏ لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون‏:‏ ‏[‏القتل أوقى للقتل‏]‏ بالواو والقاف، ويروي ‏[‏أبقى‏]‏ بالباء والقاف، ويروى ‏[‏أنفى‏]‏ بالنون والفاء، فنهاهم اللّه عن البغي فقال‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد ‏}‏ الآية، وقال ‏{‏ ولكم في القصاص حياة‏}‏ 2 @ 179 ‏.‏ وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم‏.‏

لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود‏.‏ وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فإن قوله تعالى ‏{‏كتب عليكم‏{‏ معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب‏؟‏ قيل له‏:‏ معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح‏.‏ والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى، وشبههن‏.‏

قوله تعالى‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏{‏ الآية‏.‏ اختلف في تأويلها، فقالت طائفة‏:‏ جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية ‏{‏المائدة‏{‏ وهو قول أهل العراق‏.‏

قال الكوفيون والثوري‏:‏ يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى‏{‏ فعم، وقوله‏{‏وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، قالوا‏:‏ والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه‏.‏ واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة‏.‏ والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض‏.‏ وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد‏.‏ وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة‏.‏

قلت‏:‏ هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا‏{‏ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض‏{‏ فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏ فلم يفرق بين حر وعبد‏.‏ وسيأتي بيانه في ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقتل مسلم بكافر‏)‏‏"‏ أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب‏"‏‏.‏ ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا‏.‏ قال الدارقطني‏{‏لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث‏.‏ والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى‏{‏ الآية، وعموم قوله‏{‏النفس بالنفس‏}‏المائدة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا‏:‏ إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة‏.‏ وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها‏.‏ روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لأن الشعبي لم يلق عليا‏.‏ وقد روى الحكم عن علي وعبدالله قالا‏:‏ إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي‏.‏ وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير‏.‏

ويقال لقائل ذلك‏:‏ إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏ فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه‏.‏ وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا‏.‏

وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء‏.‏ وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات‏.‏ قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور‏:‏ وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس‏.‏ وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة‏:‏ لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى، على ما تقدم‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا‏:‏ يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قتل عبده قتلناه‏)‏ وهو حديث ضعيف‏.‏ ودليلنا قوله تعالى‏{‏ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل‏}‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏ والولي ههنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه‏{‏‏.‏ وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به‏)‏

فإن قيل‏:‏ فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا‏:‏ ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد‏.‏ قلنا‏:‏ النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين‏.‏

قلت‏:‏ هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه‏:‏ ‏(‏ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه‏)‏‏.‏ وقال البخاري عن علي بن المديني‏:‏ سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث‏.‏ وقال البخاري‏:‏ وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما‏.‏ ويقتل الحر بعبد نفسه‏.‏ قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل‏:‏ إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، واللّه أعلم‏.‏ واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور‏.‏ وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة‏:‏ لا قصاص بينهم إلا في النفس‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ الأول أصح‏.‏

‏"‏روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك‏"‏قال‏:‏ حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه‏.‏ قال أبو عيسى‏{‏هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد‏{‏‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة‏:‏ لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد‏.‏ وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم‏:‏ يقتل به‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد‏{‏، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمنون تتكافأ دماؤهم‏)‏ ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة‏.‏ وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص‏.‏ وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن‏.‏

قلت‏:‏ لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا‏.‏ فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان‏:‏ يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء‏.‏ ويقتل الأجنبي بمثل هذا‏.‏ ابن العربي‏{‏سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر‏:‏ لا يقتل الأب بابنه، لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه‏؟‏ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك‏.‏ وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يقاد الوالد بولده‏)‏ وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة، وقالوا‏:‏ لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال‏:‏ إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله‏{‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون‏:‏ إذا قتل الابن الأب قتل به‏.‏

وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله‏:‏ لا تقتل الجماعة بالواحد، قال‏:‏ لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد‏.‏ وقد قال تعالى‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين‏}‏المائدة‏:‏ 45‏]‏‏.‏ والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا‏.‏ وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية عبداللّه بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال‏:‏ ‏(‏اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب، فقالوا‏:‏ كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه‏:‏ دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه‏)‏‏"‏ خرج الحديثين الدارقطني في سننه‏"‏‏.‏ ‏"‏وفي الترمذي عن أبي سعيد‏"‏ وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار‏)‏‏.‏ وقال فيه‏:‏ حديث غريب‏.‏ وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين‏:‏ لا يقتل اثنان بواحد‏.‏ روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبدالملك، قال ابن المنذر‏:‏ وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد‏.‏ وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه‏.‏

‏"‏روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي‏"‏قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا‏)‏،‏"‏ لفظ أبي داود‏"‏‏.‏‏"‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏"‏‏.‏ وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية‏)‏‏.‏ وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة‏:‏ ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل‏.‏ يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏.‏ وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال اللّه تعالى‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء‏{‏ أي ترك له دمه في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية ‏{‏فاتباع بالمعروف‏{‏ أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏{‏ أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون‏.‏ واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا‏:‏ فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال‏:‏ ‏(‏القصاص كتاب اللّه، القصاص كتاب اللّه‏)‏ ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور‏.‏ وروى الربيع عن الشافعي قال‏:‏ أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال‏:‏ وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح‏:‏ ‏(‏من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود‏)‏‏.‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ فقلت لابن أبي ذئب‏:‏ أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال‏:‏ أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول‏:‏ تأخذ به نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال‏:‏ وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏{‏ اختلف العلماء في تأويل ‏{‏من‏{‏ و‏{‏عفي‏{‏ على تأويلات خمس‏:‏

أحدها أن ‏{‏من‏{‏ يراد بها القاتل، و‏{‏عفي‏{‏ تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و‏{‏شيء‏{‏ هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء‏.‏ والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك‏.‏ والمعنى‏:‏ أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان‏.‏

الثاني‏:‏ وهو قول مالك أن ‏{‏من‏{‏ يراد به الولي ‏{‏وعفي‏{‏ يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و‏{‏شيء‏{‏ هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر‏.‏ وغير مالك يقول‏:‏ إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه‏.‏ وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن معنى ‏{‏عفي‏{‏ بذل، والعفو في اللغة‏:‏ البذل، ولهذا قال اللّه تعالى‏{‏خذ العفو‏}‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ أي ما سهل‏.‏ وقال أبو الأسود الدؤلي‏:‏

خذي العفو مني تستديمي مودتي

وقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه‏)‏ يعني شهد اللّه على عباده‏.‏ فكأنه قال‏:‏ من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف‏.‏ وقال قوم‏:‏ وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة ‏{‏المائدة‏{‏ ‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان‏.‏

وقد قال قوم‏:‏ إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون ‏{‏عفي‏{‏ بمعنى فضل‏.‏

روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال‏:‏ كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء‏.‏ وقال أحد الحيين‏:‏ لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏القتل سواء‏)‏ فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الآخر، فهو قوله‏{‏كتب‏{‏ إلى قوله‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء‏{‏ يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ‏.‏

وتأويل خامس‏:‏ وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و‏{‏عفي‏{‏ في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل‏.‏

هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب‏.‏ فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف‏.‏ قال النحاس‏{‏فمن عفي له‏{‏ شرط والجواب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف‏.‏ قال النحاس‏{‏فمن عفي له‏{‏ شرط والجواب ‏{‏فاتباع‏{‏ وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف‏.‏ ويجوز في غير القرآن ‏{‏فاتباعا‏{‏ و‏{‏أداء‏{‏ بجعلهما مصدرين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ‏{‏فاتباعا‏{‏ بالنصب‏.‏ والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى‏{‏فإمساك بمعروف‏}‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله‏{‏فضرب الرقاب‏}‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏{‏ لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏{‏ شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط ‏[‏الدم‏]‏ قاتل وليه‏.‏ ‏{‏فله عذاب أليم‏{‏ قال الحسن‏:‏ كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول‏:‏ إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية‏.‏

واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي‏:‏ هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة‏.‏ وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم‏:‏ عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو‏.‏ و‏"‏روى أبو داود عن جابر بن عبدالله‏"‏قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أعفي من قتل بعد أخذ الدية‏)‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة‏.‏ وقال عمر بن عبدالعزيز‏:‏ أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى‏.‏‏"‏ وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي‏"‏ قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا‏)‏‏.‏